سلاح النفط (3)
ذكرنا في الحلقة الماضية كيف أن أمريكا طلبت من الشاه وقف ارتفاع سعر النفط المصدر من إيران، ولكن في تلك اللحظة بدأ الشاه الانتهازي يستغل الموقف المضطرب بين العرب وأمريكا والغرب لصالحه مما أوغر صدر الغرب عليه والتخطيط لخلعه في وقت لاحق ، وهذا ما تم بالفعل فيما بعد حيث تم خلع الشاه وجيء بعميل آخر هو المجرم الخميني .وكان أحد أسباب هذا التفكير في خلعه هو أن الشاه استغل الخلاف العربي الأمريكي الغربي فاستمر في دفع سعر برميل النفط إلى أعلى ليتمكن من تسديد فواتير مشتريات الأسلحة ولتغطية كلفة خطط التنمية الخمسية في بلاده. فعلى سبيل المثال أعلن في 23 كانون الثاني 1974 رفع سعر برميل النفط من 5,11 إلى 11,65 دولار أميركي ضامناً لإيران بذلك مقدار 7 دولارات لكل برميل. هذا كان يعني ارتفاعاً في سعر برميل النفط مقداره 450% خلال سنة واحدة، وهذا بدوره فاقم من مشاكل اقتصاديات دول أوروبا الغربية التي لم تعد قادرة على مواجهة الكلفة الجديدة. لذا سعت الإدارة الأميركية لإقناع الشاه بضرورة وقف زيادة سعر برميل النفط، بل وطلبت تخفيضه، لكن من دون جدوى مما دفع بواشنطن للبحث في حلول أخرى ربما كان أحدها خلعه في الوقت المناسب.
وللمزايدين من الثورجية الذين يكتبون ليوجهوا اللوم إلى دول الخليج العربية على عدم استخدام ما يسمونه سلاح النفط ، لابد من الإشارة هنا إلى اجتماع هنري كيسنجر بالملك فيصل في الرياض بتاريخ 8 تشرين الثاني 1973، الذي سبق الإشارة إليه . وهذا الاجتماع ذو أهمية لأن دول الخليج والسعودية على وجه التحديد بدأت تتلمس الخطر القادم الذي يخطط لها دون أن تجد أحداً يقف إلى جانبها إلا بالشعارات الرنانة التي يصدرها زعماء الدول والمنظمات الثورية ووكلاؤهم دون أن تجد أثراً على أرض الواقع .هذا الاجتماع المهم افتقر إلى محاضر يمكن العودة إليها، لكن تطورات الأوضاع وتقارير الإدارة الأميركية اللاحقة تشير إلى تغير في موقف السعودية بعد أن بدأ مايسمى سلاح النفط يرتد على دول الخليج العربية ويعرض أمنها للخطر . تقول تلك أحد تلك التقارير بأن الملك فيصل أبلغ كيسنجر استعداده لعقد صفقة لإنهاء الحظر قائلاً لكيسنجر: "بإمكانكم إجبار إسرائيل على الانسحاب في ثلاثة أسابيع. ألا يمكنكم مساعدتي وإعطائي القدس». فرد كيسنجر، على ما ورد في الوثائق: «هذا آخر اهتماماتنا الآن، سنفعل ذلك لكننا في حاجة إلى بعض الوقت" .
ولما كان مايطلبه الملك فيصل صعباً بالنسبة لواشنطن ، وبسبب استغلال إيران للموقف لصالحها بكل أنانية وانفصال عن الأمة الإسلامية وبسب عدم التزام صدام حسين والقذافي بما التزمت به السعودية ودول الخليج وبسبب خيانات الأسد وبسبب جدية التهديدات الأمريكية والإسرائيلية والغربية للسعودية ودول الخليج فقد أدرك الملك فيصل أن الموقف أصبح حرجاً دون أن يكون هناك سند له من السوفييت أو غيرهم فقرر التخفيف من شروطه حتى لاتضيع الأمة . وقد أدرك البيت الأبيض ذلك فمنح السعودية والملك فيصل جسراً للتراجع، يمكنه من حفظ بعض من ماء وجهه.
ولا تتوافر لدينا تفاصيل عما حدث حتى يوم 28 تشرين الثاني، ولكن في ذلك اليوم وفي الساعة 11:15 اتصل كيسنجر بوزير الدفاع الأميركي شلسنغر ليبلغه تسلمه رسالة رسمية من السعودية تقول: "إن الملك فيصل يود تخفيف حظر النفط ويبحث عن مخرج في صورة رسالة رئاسية من البيت الأبيض حول انعقاد مؤتمر سلام، ويطلب منحه مهلة بضعة أسابيع لرفع الحظر". فرد وزير الدفاع الأميركي: "هذا جيد لأنني في حاجة إلى ثمانية أسابيع لإنهاء وضع خطط احتلال منابع النفط"
"مجموعة واشنطن للعمل الاستثنائي" آنفة الذكر اجتمعت يوم 29 تشرين الثاني 1973 في البيت الأبيض مرتين، حيث علمت من كيسنجر بأن السعودية بدأت بالاستسلام وهو ما أكده وليم كلبي رئيس وكالة الاستخبارات المركزية الذي ينسب إليه القول: إن الملك فيصل ليس معمر القذافي (أي أن فيصل لا يستطيع تحدي أميركا لأنه غير مسنود من قوى أخرى).
وقد استنتجت الإدارة الأمريكية ذلك الميل للتفاهم بدل المواجهة من الطرف السعودي حينما ألمحت السعودية قبل ذلك التاريخ بأن بإمكان شركة «أرامكو» سراً ضخ كميات نفط أكبر من الرقم المعلن، لكن من دون إعلان ذلك. والملك فيصل كان أبلغ كيسنجر في اجتماع 8 تشرين الثاني استعداد السعودية لتزويد الأسطول الأميركي السابع سراً بكميات من النفط. ، وهذا فعلاً ما حصل حيث قامت السعودية بكسر حظر النفط الذي فرضته بنفسها على الولايات المتحدة وبدأت بتزويد الجيش الأميركي بالنفط خمسة أسابيع بعد إعلانها فرض الحظر،ولولا أن قامت السعودية بذلك لكانت السفن الحربية الأمريكية قد احتلت الخليج . وموقف الملك فيصل الجديد جعل واشنطن تخفف من وجودها العسكري البحري عند مدخل الخليج وترسل بعض سفنها الحربية المتجهة إلى الخليج إلى مرافئ باكستان وشرق أفريقيا القريبة .
تراجع السعودية عن الحظر لم يكن نتيجة قناعة بل بسبب رعب حكام الخليج من التهديد الأميركي باحتلال حقول النفط. لأنهم قاموا بكل ما بوسع طرف ضعيف أن يقوم به ولأن الخطر كان حرجاً أكدته جدية التهديد الأميركي باحتلال حقول النفط في دول الخليج وطرح فرنسا أيضاً على واشنطن التدخل العسكري في الخليج، مما دفع وزير النفط السعودي أحمد زكي إلى التصريح بأن بلاده فخّخت حقول النفط تحسباً لأي محاولة احتلال.
مع ذلك التراجع، تساءل كيسنجر في اجتماع «مجموعة واشنطن» آنف الذكر عن إمكانية ترتيب انقلاب في إحدى الدول الخليجية «فقط لنريهم أن بإمكاننا عمل ذلك»، أي عملية «تأديبية» لدول الخليج ليس غير!
ولكن ما خفف من التوتر هو إلتزام السعودية بتعهدها السري لواشنطن. ففي اجتماع منظمة الأوبك في 18 آذار 1974 تقرر إنهاء حظر النفط، وأعلنت الرياض كذلك زيادة إنتاجها بمقدار مليون برميل يومياً رافضة طلب إيران برفع سعر برميل النفط بمقدار 5%. وبعد أسبوع عاد إنتاج النفط السعودي إلى ما كان عليه قبل الحظر، بل وارتفع إلى أكثر من 11 مليون برميل، أي زيادة مقدارها 37%.
وزير النفط أحمد زكي اليماني قال في اجتماع أوبِك الأخير إن بلاده ستنسحب من المنظمة، ما يعني بدء عملية تحطيمها، وهو ما تم في مرحلة لاحقة.
طهران من ناحيتها استمرت في سياسة نفطية عدتها واشنطن ابتزازاً ومنها أن الشاه أبلغها نهاية عام 1973 استعداده لرفع إنتاج إيران من النفط فقط مقابل مواد بناء مثل الإسمنت وقضبان فولاذ محددة وألمنيوم وغير ذلك. قبل ذلك، أبلغت طهران واشنطن أنها ستستمر في رفع سعر النفط حتى يتساوى مع سعر الطاقة البديلة، أي الزيت الصخري وتحويل الفحم الحجري إلى غاز.
هذه التطورات غير المنظورة من قبل، وغيرها، دفعت وزارة الخارجية الأميركية إلى الاستنتاج البديهي بأن دعم القوة العسكرية الإيرانية سيؤدي إلى تعامل الشاه مع واشنطن من موقع قوة، بما يعني ضرورة البحث عن عميل بديل.وكان ذلك العميل هو الخميني وعصابة الحكم الحالية في إيران.
وزاد من ذلك التطلع الأمريكي والغربي إلى وجود عميل جديد يحل محل الشاه هو استمرار الشاه في المبالغة في مطالبه إذ راح ـ في ذلك الوقت ـ يسوّغ لدفع سعر النفط إلى الأعلى بحجة ارتفاع أسعار المواد الغذائية المستوردة. ففي 1 كانون الأول 1973 نشرت «ذي نيو ريبابلك» مقابلة معه قال فيها: إن أسعار النفط ستستمر في الصعود بسبب ارتفاع سعر القمح والإسمنت والسكر بمقدار ثلاثة أضعاف. كما كان يشير إلى ارتفاع أسعار الأسلحة الأميركية بمقدار 80%..
ولو حدث واستمر الملك فيصل في مواقفه المتصلبة لكان موقفه أكثر صعوبة من الشاه لأن الشاه بالرغم من مواقفه الانتهازية، إلا أنه يظل أقرب لأمريكا من الملك فيصل وتعتمد عليه أكثر من الدول العربية المعادية لإسرائيل,ذلك رغم طلب الملك فيصل بأن يقوم تحالف اقتصادي عسكري بين أمريكا والسعودية، ولكن قيادات واشنطن لم تكن جاهزة للعودة الطبيعية للعلاقات مع السعودية خاصة أن عينيها كانتا مركزتين على التعاون مع إيران. وهنا حاول كيسنجر تخفيف حدة الخلاف مع السعودية،خاصة بعد اجتماع كيسنجر الآنف الذكر بالعاهل السعودي بتاريخ 8 تشرين الثاني 1973، حيث قام كيسنجر في 7 آذار 1974 بمحاولة تخفيف العداء مع السعودية فأخذ بشرح للقادة الأمريكان أهداف التحالف الجديد مع السعودية ،ومن هؤلاء الذين شرح لهم ذلك لبِل كلمنتس نائب وزير الدفاع الأميركي وقال له: "لقد قررنا السير بالمطلق مع الرياض وهذا ما اتفقت عليه مع الملك فيصل الذي تعلم الدروس من حظر النفط (أي عدم الوقوف في وجه واشنطن التي ردت بتهديده باحتلال حقول النفط وتدمير المملكة وتحويلها إلى ركام)، وأضاف كيسنجر بقوله "سنرسل بعثتين عسكرية واقتصادية لوضع خطط الحلف الجديد".
كما قام هنري كيسنجر بالإتصال بالرئيس نيكسون يوم الاثنين 11 آذار 1974 ليبلغه برغبة السعودية لإقامة الحلف وأنها ستنهي حظر النفط [كسلاح] ولن تعود إليه، على الأقل ليس جماعياً مع الدول العربية". وبناءً على تلك المحاولات والموقف السعودي الجديد الذي أدرك خطورة الموقف، فقد شهدت تلك المرحلة تحولاً في سياسة واشنطن حيث قررت الأخيرة قبول عرض الرياض بالمشاركة في رسم سياسة الحكم السعودي الداخلي وفي السياسة الخارجية وفي تطورها الاقتصادي، وهو ما كان الملك فيصل مضطراً إليه حتى يتفادى كوارث قادمة على بلاده في ظل عدم وجود حليف عربي أو غير عربي قوي يدفع به الشر عن بلاده .
ومن ناحية أخرى جاءت خطوته في الوقت المناسب لأن الشاه بدأ يكتسب ثقة قصوى بنفسه لدرجة الغرور لتقديره بأن أمريكا والغرب بحاجة إليه ليرفع عصاه الغليظة ضد العرب عند الحاجة فأخذ يبالغ في مطالبه ورفض مأسسة علاقاته الاقتصادية والعسكرية مع واشنطن ، ولكن ذلك عاد عليه بنتيجة سلبية أضعفت من درجة حظوته لدى واشنطن والغرب وتخطيطهم للبديل العميل (الخميني).
أما على جانب العلاقات السعودية الأمريكية فقد بدأ كيسنجر يرتب لتنفيذ بنود الإتفاق ولترتيب الأمور المستجدة ،فجمع كيسنجر يوم 29 آذار 1974 رؤساء شركات النفط الأميركية «تكسكو»، و«ستندرد أويل أوف كاليفورنيا»، و«غلف أويل»، و«موبيل أويل»، و«إكسكن»، و«أمردا هِس»، و«أطلنطيك رتشفيد»، و«كونتننتل أويل»، وحضر الاجتماع جون مكلوي صاحب شركة محاماة متخصصة في صياغة عقود النفط مع الدول العربية، ونائب وزير الخزانة الأميركي بل سيمون.
وما رشح عن الاجتماع أن كسينجر أوضح أن ارتفاع الأسعار أدى إلى عقد صفقات تبادل بين الدول المصدرة والدول المستوردة، مثل ليبيا والأرجنتين (قمح ولحوم مقابل النفط)، والعراق من جهة وفرنسا واليابان، والسعودية مع فرنسا (النفط مقابل السلاح) والعراق واليابان (بناء مصفاة تسييل الغاز مقابل النفط) ليبيا وبولندا (النفط مقابل ناقلات نفط وأجهزة صناعية)، وهكذا، ما أثر سلباً في دخل شركات النفط الأميركية وأرباحها حيث شكت في الاجتماع من أن صفقات تبادل النفط مقابل البضائع بدأ يؤثر في عملياتها وأدت إلى فقدان أسواق وهبوط أرباحها.
أما شاه إيران فقد استمر في دفع سعر النفط إلى أعلى ، مثلما فعل معمر القذافي غير القادر على تقدير المواقف تقديراً سليماً أو بسبب اعتماده على علاقته بالإتحاد السوفييتي أو علاقته الخفية مع إسرائيل ، وهواري بومدين البعيد عن مركز الخطر وهو السعودية ودول الخليج ، التي أدركت ما كان سيحدث لها وللسعودية لولا إدراك القيادة السعودية مدى خطورة الموقف والذي كان سيلحق أفدح الأخطار ليس باقتصادها فحسب ولكن بكيانها وكيان الدول الخليجية .
أما تعنت الشاه فهو كما ذكرنا كان نابعاً من أن الولايات المتحدة لايمكنها أن تستغني عن إيران في مواجهة الإتحاد السوفييتي أو كشرطي يمسك بتلابيب الدول الخليجية مما جعله متأكداً بأن أمريكا ستلبي مطالبه دون اعتبار للضرر الذي يلحقه باقتصاد أمريكا واقتصاديات حلفائها الغربيين،وهو الأمر الذي استفز واشنطن، إضافة إلى شكوكها في نواياه فيما يتعلق بالأسلحة التي يصر على الإكثار منها وإصراره على إرسالها خبراء أميركيين لتحريكها وصيانتها،آخذاً في الاعتبار عدم مقدرة بلاده على استيعاب الأسلحة الجديدة. وإرسال أفراد من القوات المسلحة الأمريكية هو ما كانت واشنطن تتفاداه إذا إن سياستها، بخاصة بعد درس فييتنام التأديبي، كانت تتجه إلى تكليف الأنظمة المرتبطة بها بمهمات الدفاع عن مصالحها وعدم إرسال جنودها للموت. خاصة أن عدد الخبراء العسكريين الأميركيين في إيران وصل إلى أكثر من خمسين ألف شخص ، وهو ما يقلق الإدارة الأمريكية.
إزاء استمرار ضغط شاه إيران في رفع سعر برميل النفط، وعدم إصغائه لكلام واشنطن المتواصل عن ضرورة وقف ذلك، رأت واشنطن أن تستفيد من هذا التقارب الجديد مع السعودية ,وأن تضغط على الشاه فدعت وفداً سعودياً كبيراً لزيارتها برئاسة الأمير فهد بن عبدالعزيز برفقة عدد كبير يقدر أفراده ب 1400 شخصية في الأسبوع الأول من شهر حزيران 1974 لتوقيع مجموعة اتفاقيات اقتصادية وعسكرية. وقد توجت تلك الزيارة بمأدبة أقامها بل سايمنز للأمير فهد وعدد من الشخصيات يوم الجمعة الموافق 7 حزيران في مزرعته بمكلين بولاية فرجينيا. وكانت تلك إشارة أمريكية تأديبية للشاه لعله ينتبه إلى عدم المبالغة في مواقفه غير المناسبة.
زياد الكاتب
يتبع